فصل: تفسير الآيات رقم (6- 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


الجزء الأول

‏[‏مقدمة المصنف‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المنزه بذاته عن إشارة الأوهام المقدس بصفاته عن إدراك العقول والأفهام المتصف بالألوهية قبل كل موجود الباقي بالنعوت السرمدية بعد كل محدود الملك الذي طمست سبحات جلاله الأبصار المتكبر الذي أزاحت سطوات كبريائه الأفكار القديم الذي تعالى عن مماثلة الحدثان العظيم الذى تنزه عن مماسة المكان المتعالى عن مضاهاة الأجسام ومشابهة الأنام القادر الذي لا يشار إليه بالتكييف القاهر الذي لا يسأل عن التحميل والتكليف العليم الذي خلق الانسان وعلمه البيان الحكيم الذى نزل القرآن شفاء للأرواح والأبدان والصلاة والسلام عى المستل من أرومة البلاغة والبراعة المحتل في بحبوحة النصاحة والفصاحة محمد المبعوث إلى خليقته الداعى إلى الحق وطريقته صلى الله عليه وسلم وعلى آله وشيعته قال مولانا الشيخ الامام المعظم والحبر الهمام المقدم أستاذ أهل الأرض محيي السنة والفرض كشاف حقائق أسرار التنزيل مفتاح أسرار حقائق التأويل ترجمان كلام الرحمن صاحب علم المعانى والبيان الجامع بين الأصول والفروع المرجوع إليه في المعقول والمسموع حافظ الملة والدين شيخ الإسلام والمسلمين وارث علوم الأنبياء والمرسلين أكمل فحول المجتهدين قدوة قروم المحققين ذو السعادات والكرامات أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفى نفع الله الإسلام بطول بقائه والمسلمين بيمن لقائه‏:‏

قد سألني من تتعين إجابته كتابا وسطا في التأويلات جامعا لوجوه الاعراب والقراءات متضمنا لدقائق علمى البديع والاشارات حاليا بأقاويل أهل السنة والجماعة خاليا عن أباطيل أهل البدع والضلالة ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل وكنت أقدم فيه رجلا وأؤخر أخرى استقصارا لقوة البشر عن درك هذا الوطر وأخذا لسبيل الحذر عن ركوب متن الخطر حتى شرعت فيه بتوفيق الله والعوائق كثيرة وأتممته في مدة يسيرة وسميته بمدارك التنزيل وحقائق التأويل وهو الميسر لكل عسير وهو على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير‏.‏

سورة الفاتحة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏1‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏3‏)‏ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏4‏)‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏(‏5‏)‏ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏6‏)‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم‏}‏ قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك للابتداء بها، وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه رحمهم الله، ولذا لا يجهر بها عندهم في الصلاة‏.‏ وقراء مكة والكوفة على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله، ولذا يجهرون بها في الصلاة وقالوا‏:‏ قد أثبتها السلف في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن عما ليس منه‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله‏.‏ ولنا حديث أبي هريرة قال‏:‏ سمعت النبي عليه السلام يقول‏:‏ ‏"‏ قال الله تعالى قسمت الصلاة أي الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد ‏{‏الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ حمدني عبدي‏.‏ وإذا قال ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ أثنى عليّ عبدي‏.‏ وإذا قال ‏{‏مالك يَوْمِ الدين‏}‏ قال‏:‏ مجدني عبدي‏.‏ وإذا قال ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ قال‏:‏ هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل‏.‏ فإذا قال ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين‏}‏ قال‏:‏ هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ‏"‏ فالابتداء بقوله ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ دليل على أن التسمية ليست من الفاتحة، وإذا لم تكن من الفاتحة لا تكون من غيرها إجماعاً، والحديث مذكور في صحاح المصابيح‏.‏ وما ذكروا لا يضرنا لأن التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور عندنا ذكره فخر الإسلام في المبسوط‏.‏ وإنما يرد علينا أن لو لم نجعلها آية في القرآن وتمام تقريره في «الكافي»‏.‏

وتعلقت الباء بمحذوف تقديره‏:‏ باسم الله أقرأ أو أتلو، لأن الذي يتلو التسمية مقروء كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال باسم الله والبركات كان المعنى باسم الله أحل وباسم الله أرتحل، وكذا الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله باسم الله كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له‏.‏ وإنما قدر المحذوف متأخراً لأن الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به، وكانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات وباسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذا بتقديمه وتأخير الفعل‏.‏ وإنما قدم الفعل في ‏{‏اقرأ باسم رَبّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ لأنها أول سورة نزلت في قول، وكان الأمر بالقراءة أهم فكان تقديم الفعل أوقع‏.‏ ويجوز أن يحمل ‏{‏اقرأ‏}‏ على معنى افعل القراءة وحققها كقولهم فلان يعطي ويمنع غير متعدٍ إلى مقروء به، وأن يكون ‏{‏باسم رَبّكَ‏}‏ مفعول ‏{‏اقرأ‏}‏ الذي بعده‏.‏

واسم الله يتعلق بالقراءة تعلق الدهن بالإنبات في قوله ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏ على معنى متبركاً باسم الله أقرأ ففيه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه‏.‏ وبنيت الباء على الكسر لأنها تلازم الحرفية والجر فكسرت لتشابه حركتها عملها، والاسم من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون كالابن والابنة وغيرهما؛ فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة تفادياً عن الابتداء بالساكن تعذراً، وإذا وقعت في الدرج لم يفتقر إلى زيادة شيء‏.‏ ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن فقال «سم» و«سم» وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز كيد ودم وأصله «سمو» بدليل تصريفه كأسماء وسمي وسميت‏.‏ واشتقاقه من السمو وهو الرفعة لأن التسمية تنويه بالمسمّى وإشادة بذكره، وحذفت الألف في الخط هنا وأثبتت في قوله‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم رَبّكَ‏}‏ لأنه اجتمع فيها أي في التسمية مع أنها تسقط في اللفظ لكثرة الاستعمال، وطولت الباء عوضاً عن حذفها، وقال عمر بن عبد العزيز لكاتبه‏:‏ طول الباء وأظهر السينات ودور الميم، والله أصله الإله ونظيره الناس أصله الأناس، حذفت الهمزة وعوض منها حرف التعريف‏.‏ والإله من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا‏.‏ وأما الله بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره، وهو اسم غير صفة لأنك تصفه ولا تصف به، لا تقول شيء إله كما لا تقول شيء رجل، وتقول الله واحد صمد، ولأن صفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجري عليه فلو جعلتها كلها صفات لبقيت صفات غير جارية على اسم موصوف بها وذا لا يجوز‏.‏ ولا اشتقاق لهذا الاسم عند الخليل والزجاج ومحمد ابن الحسن والحسين بن الفضل‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعداً معنى واحد وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم «أله» إذا تحير ينتظمهما معنى التحير والدهشة، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن ولذا كثر الضلال وفشا الباطل وقل النظر الصحيح‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قولهم أله يأله إلاهاً إذا عبد فهو مصدر بمعنى مألوه أي معبود كقوله ‏{‏هذا خَلْقُ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 11‏]‏ أي مخلوقه‏.‏ وتفخم لامه إذا كان قبلها فتحة أو ضمة، وترقق إذا كان قبلها كسرة‏.‏ ومنهم من يرققها بكل حال، ومنهم من يفخم بكل حال والجمهور على الأول‏.‏ والرحمن فعلان من رحم وهو الذي وسعت رحمته كل شيء كغضبان من غضب وهو الممتلئ غضباً، وكذا الرحيم فعيل منه كمريض من مرض‏.‏ وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم لأن في الرحيم زيادة واحدة وفي الرحمن زيادتين، وزيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى، ولذا جاء في الدعاء يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن‏.‏

وقالوا‏:‏ الرحمن خاص تسمية لأنه لا يوصف به غيره، وعام معنى لما بينا‏.‏ والرحيم بعكسه لأنه يوصف به غيره ويخص المؤمنين ولذا قدم الرحمن وإن كان أبلغ والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى‏.‏ يقال‏:‏ فلان عالم ذو فنون نحرير لأنه كالعلم لما لم يوصف به غير الله، ورحمة الله إنعامه على عباده وأصلها العطف وأما قول الشاعر في مسيلمة‏:‏

وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا *** فباب من تعنتهم في كفرهم‏.‏ ورحمن غير منصرف عند من زعم أن الشرط انتفاء فعلانة إذ ليس له فعلانة، ومن زعم أن الشرط وجود فعلي صرفه إذ ليس له فعلى، والأول أوجه‏.‏

‏{‏الحمد‏}‏ الوصف بالجميل على جهة التفضيل، وهو رفع بالابتداء وأصله النصب‏.‏ وقد قرئ بإضمار فعله على أنه من المصادر المنصوبة بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكراً وكفراً‏.‏ والعدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره والخبر‏.‏ ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ واللام متعلق بمحذوف أي واجب أو ثابت‏.‏ وقيل‏:‏ الحمد والمدح أخوان وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها‏.‏ تقول‏:‏ حمدت الرجل على إنعامه وحمدته على شجاعته وحسبه، وأما الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال‏:‏

أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا

أي القلب، والحمد باللسان وحده وهو إحدى شعب الشكر ومنه الحديث «الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده» وجعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان أشيع لها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب وما في عمل الجوارح من الاحتمال، ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفران‏.‏ وقيل‏:‏ المدح ثناء على ما هو له من أوصاف الكمال ككونه باقياً قادراً عالماً أبدياً أزلياً، والشكر ثناء على ما هو منه من أوصاف الإفضال والحمد يشملهما‏.‏ والألف واللام فيه للإستغراق عندنا خلافاً للمعتزلة، ولذا قرن باسم الله لأنه اسم ذات فيستجمع صفات الكمال وهو بناء على مسألة خلق الأفعال وقد حققته في مواضع‏.‏ ‏{‏رَبّ العالمين‏}‏ الرب المالك ومنه قول صفوان لأبي سفيان‏:‏ لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن‏.‏ تقول ربه يربه رباً فهو رب، ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل‏.‏ ولم يطلقوا الرب إلاّ في الله وحده وهو في العبيد مع التقييد ‏{‏إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏قَالَ ارجع إلى رَبّكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50‏]‏، وقال الواسطي‏:‏ هو الخالق ابتداء، والمربي غذاء، والغافر انتهاء‏.‏ وهو اسم الله الأعظم والعالم كل ما علم به الخالق من الأجسام والجواهر والأعراض، أو كل موجود سوى الله تعالى سمي به لأنه علم على وجوده‏.‏ وإنما جمع بالواو والنون مع أنه يختص بصفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام لما فيه من معنى الوصفية وهي الدلالة على معنى العلم‏.‏

‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ ذكرهما قد مر وهو دليل على أن التسمية ليست من الفاتحة إذ لو كانت منها لما أعادهما لخلو الإعادة عن الإفادة‏.‏

‏{‏مالك‏}‏‏:‏ عاصم وعليّ ملك‏:‏ غيرهما وهو الاختيار عند البعض لاستغنائه عن الإضافة ولقوله‏:‏ ‏{‏لّمَنِ الملك اليوم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ ولأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً، ولأن أمر الملك ينفذ على المالك دون عكسه‏.‏ وقيل‏:‏ المالك أكثر ثواباً لأنه أكثر حروفاً‏.‏ وقرأ أبو حنيفة والحسن رضي الله عنهما «ملك» ‏{‏يَوْمِ الدين‏}‏ أي يوم الجزاء ويقال كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى، وهذه إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع كقولهم‏:‏

يا سارق الليلة أهل الدار *** أي مالك الأمر كله في يوم الدين‏.‏ والتخصيص بيوم الدين لأن الأمر فيه لله وحده، وإنما ساغ وقوعه صفة للمعرفة مع أن إضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية لأنه أريد به الاستمرار فكانت الإضافة حقيقية، فساغ أن يكون صفة للمعرفة، وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى من كونه رباً أي مالكاً للعالمين ومنعماً بالنعم كلها ومالكاً للأمر كله يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه‏.‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ «إيا» عند الخليل وسيبويه اسم مضمر، والكاف حرف خطاب عند سيبويه ولا محل له من الإعراب‏.‏ وعند الخليل هو اسم مضمر أضيف «إيا» إليه لأنه يشبه المظهر لتقدمه على الفعل والفاعل‏.‏ وقال للكوفيون‏:‏ إياك بكمالها اسم وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، والمعنى نخصك بالعبادة وهي أقصى غاية الخضوع والتذلل، ونخصك بطلب المعونة، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب للالتفات، وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا فَسُقْنَاهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏، وقول امريء القيس‏:‏

تطاول ليلك بالإثمد *** ونام الخلي ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة *** كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبإٍ جاءني *** وخبرته عن أبي الأسود

فالتفت في الأبيات الثلاثة حيث لم يقل ليلي وبت وجاءك، والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبوب عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه وأملأ لاستلذاذ إصغائه، وقد تختص مواقعه بفوائد ولطائف قلما تتضح إلا للحذاق المهرة والعلماء النحارير وقليل ما هم‏.‏ ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد والثناء، وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد ونستعين لا غيرك‏.‏

وقدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة، أو لنظم الآي كما قدم الرحمن، وإن كان الأبلغ لا يقدم‏.‏ وأطلقت الاستعانة لتتناول كل مستعان، فيه، ويجوز أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادات ويكون قوله‏:‏ «اهدنا» بياناً للمطلوب من المعونة كأنه قيل‏:‏ كيف أعينكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي ثبتنا على المنهاج الواضح كقولك للقائم‏:‏ قم حتى أعود إليك أي أثبت على ما أنت عليه‏.‏ أو اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال‏.‏ وهدى يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، فأما تعديه إلى مفعول آخر فقد جاء متعدياً إليه بنفسه كهذه الآية، وقد جاء متعدياً باللام وبإلى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَدَانَا لهذا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هَدَانِي رَبّي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏‏.‏ والسراط‏:‏ الجادة من سرط الشيء إذا ابتلعه كأنه يسرط السابلة إذا سلكوه‏.‏ والصراط من قلب السين صاداً لتجانس الطاء في الإطباق لأن الصاد والضاد والطاء والظاء من حروف الإطباق، وقد تشم الصاد صوت الزاي لأن الزاي إلى الطاء أقرب لأنهما مجهورتان وهي قراءة حمزة، والسين قراءة ابن كثير في كل القرآن وهي الأصل في الكلمة، والباقون بالصاد الخالصة وهي لغة قريش وهي الثابتة في المصحف الإمام، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل، والمراد به طريق الحق وهو ملة الإسلام‏.‏

‏{‏صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ بدل من الصراط وهو في حكم تكرير العامل، وفائدته التأكيد والإشعار بأن الصراط المستقيم تفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده وهم المؤمنون والأنبياء عليهم السلام أو قوم موسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يغيروا ‏{‏غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين‏}‏ بدل من الذين أنعمت عليهم، يعني أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال أو صفة للذين، يعني أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال‏.‏ وإنما ساغ وقوعه صفة للذين وهو معرفة و«غير» لا يتعرف بالإضافة لأنه إذا وقع بين متضادين وكانا معرفتين تعرف بالإضافة نحو»عجبت من الحركة غير السكون«‏.‏ والمنعم عليهم والمغضوب عليهم متضادان، ولأن الذين قريب من النكرة لأنه لم يرد به قوم بأعيانهم»وغير المغضوب عليهم«قريب من المعرفة للتخصيص الحاصل له بإضافته، فكل واحد منهما فيه إبهام من وجه واختصاص من وجه فاستويا‏.‏»وعليهم«الأولى محلها النصب على المفعولية، ومحل الثانية الرفع على الفاعلية‏.‏ وغضب الله إرادة الانتقام من المكذبين وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على ما تحت يده‏.‏ وقيل‏:‏ المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏ والضالون هم النصارى لقوله تعالى

‏{‏قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 77‏]‏،»ولا«زائدة عند البصريين للتوكيد، وعند الكوفيين هي بمعنى غير‏.‏ آمين صوت سمي به الفعل الذي هو استجب كما أن رويد اسم لأمهل‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين فقال‏:‏ «افعل» وهو مبني وفيه لغتان‏:‏ مد ألفه وقصرها وهو الأصل والمد بإشباع الهمزة قال‏:‏

يا رب لا تسلبّني حبها أبدا *** ويرحم الله عبداً قال آمينا

وقال‏:‏ آمين فزاد الله ما بيننا بعداً‏.‏ قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب ‏"‏ وقال‏:‏ إنه كالختم على الكتاب‏.‏ وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف‏.‏

سورة البقرة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الم‏}‏ ونظائرها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فالقاف تدل على أول حروف قال، والألف تدل على أوسط حروف قال، واللام تدل على الحرف الأخير منه وكذلك ما أشبهها‏.‏ والدليل على أنها أسماء أن كلاً منها يدل على معنى في نفسه ويتصرف فيها بالإمالة والتفخيم وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير وهي معربة، وإنما سكنت سكون زيد وغيره من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه‏.‏ وقيل‏:‏ إنها مبنية كالأصوات نحو «غاق» في حكاية صوت الغراب، ثم الجمهور على أنها أسماء السورة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أقسم الله بهذه الحروف‏.‏ وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ إنها اسم الله الأعظم‏.‏ وقيل‏:‏ إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله‏.‏ وما سميت معجمة إلا لإعجامها وإبهامها‏.‏ وقيل‏:‏ ورود هذه الأسماء على نمط التعديد كالإيقاظ لمن تحدى بالقران‏.‏ وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا إن لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم يظهر عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة وهم أمراء الكلام إلا لأنه ليس من كلام البشر وأنه كلام خالق القوى والقدر، وهذا القول من الخلافة بالقبول بمنزل‏.‏ وقيل‏:‏ إنما وردت السور مصدرة بذلك ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإغراب وتقدمة من دلائل الإعجاز، وذلك أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام الأميّون منهم وأهل الكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، فكان حكم النطق بذلك من اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن التي لم تكن قريش ومن يضاهيهم في شيء من الإحاطة بها في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي وشاهد لصحة نبوته‏.‏

واعلم أن المذكور في الفواتح نصف أسامي حروف المعجم وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم‏.‏ وهي مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، فمن المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف، ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة نصفها واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء وغير المذكورة من هذه الأجناس مكثورة بالمذكورة منها‏.‏

وقد علمت أن معظم الشيء ينزل منزلة كله، فكأن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما مر من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم‏.‏ وإنما جاءت مفرقة على السور لأن إعادة التنبيه على المتحدى به مؤلفاً منها لا غير أوصل إلى الغرض، وكذا كل تكرير ورد في القرآن فالمطلوب منه تمكين المكرر في النفوس وتقريره‏.‏ ولم تجئ على وتيرة واحدة بل اختلفت أعداد حروفها مثل‏:‏ ص وق ون وطه وطس ويس وحم والم والر وطسم والمص والمر وكهيعص وحم عسق‏.‏ فوردت على حرف وحرفين وثلاثة وأربعة وخمسة كعادة افتنانهم في الكلام‏.‏ وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فسلك في الفواتح هذا المسلك‏.‏ «والم» آية حيث وقعت، وكذا ‏{‏المص‏}‏ آية و‏{‏المر‏}‏ لم تعد آية وكذا ‏{‏الر‏}‏ لم تعد آية في سورها الخمس و‏{‏طسم‏}‏ آية في سورتيها و‏{‏طه‏}‏ و‏{‏يس‏}‏ آيتان و‏{‏وطس‏}‏ ليست بآية و‏{‏حم‏}‏ آية في سورها كلها و‏{‏حم عسق‏}‏ آيتان و‏{‏كهيعص‏}‏ آية و‏{‏ص‏}‏ و‏{‏ن‏}‏ و‏{‏ق‏}‏ ثلاثتها لم تعد آية وهذا عند الكوفيين ومن عداهم لم يعد شيئاً منها آية، وهذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور‏.‏

ويوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات، أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله ‏{‏الم الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1‏]‏ أي هذه الم ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1‏]‏ ولهذه الفواتح محل من الإعراب فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام وهو الرفع على الابتداء، أو النصب أو الجر لصحة القسم بها وكونها بمنزلة الله والله على اللغتين، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه كما لا محل للجملة المبتدأة وللمفردات المعدودة‏.‏

‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ أي ذلك الكتاب الذي وعد به على لسان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو «ذلك» إشارة إلى «الم»، وإنما ذكّر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة، لأن الكتاب إن كان خبره كان ذلك في معناه ومسماه مسماه فجاز إجراء حكمه عليه بالتذكير والتأنيث، وإن كان صفته فالإشارة به إلى الكتاب صريحاً لأن اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له، تقول‏:‏ هند ذلك الإنسان أو ذلك الشخص فعل كذا، ووجه تأليف ذلك الكتاب مع «الم» إن جعلت «الم» إسماً للسورة أن يكون «الم» مبتدأ و«ذلك» مبتدأ ثانياً و«الكتاب» خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص كما تقول‏:‏ هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، وأن يكون «الم» خبر مبتدأ محذوف أي هذه «الم» جملة «وذلك الكتاب» جملة أخرى، وإن جعلت «الم» بمنزلة الصوت كان «ذلك» مبتدأ خبره «الكتاب» أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل‏.‏

‏{‏لاَ رَيْبَ‏}‏ لا شك وهو مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة‏.‏ وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ‏"‏ أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن، ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه‏.‏ وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير لأن المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه لا أن أحداً لا يرتاب، وإنما لم يقل «لا فيه ريب» كما قال ‏{‏لاَ فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 47‏]‏ لأن والمراد في إيلاء الريب حرف النفي نفي الريب عنه وإثبات أنه حق لا باطل كما يزعم الكفار، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً آخر فيه ريب لا فيه كما قصد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 47‏]‏، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي‏.‏ والوقف على «فيه» هو المشهور‏.‏ وعن نافع وعاصم أنهما وقفاً على «ريب»‏.‏ ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً والتقدير‏:‏ لا ريب فيه‏.‏

‏{‏فِيهِ هُدًى‏}‏ فيه بإشباع كل هاء مكي ووافقه حفص في ‏{‏فيه مهاناً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 69‏]‏ وهو الأصل كقولك مررت به ومن عنده وفي داره‏.‏ وكما لا يقال في داره ومن عنده وجب أن لا يقال فيه‏.‏ وقال سيبويه ما قاله مؤد إلى الجمع بين ثلاثة أحرف سواكن‏:‏ الياء قبل الهاء، والهاء إذاً الهاء المتحركة في كلامهم بمنزلة الساكنة لأنها الهاء خفية والخفي قريب من الساكن، والياء بعدها‏.‏ والهدى مصدر على فعل كالبكي وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ وإنما قيل هدى ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ والمتقون مهتدون لأنه كقولك للعزيز المكرم‏:‏ أعزك الله وأكرمك، تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏، أو لأنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقوله عليه السلام

‏"‏ من قتل قتيلاً فله سلبه ‏"‏ وقول ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض، فسمى المشارف للقتل والمرض قتيلاً ومريضاً‏.‏ ولم يقل‏:‏ هدى للضالين‏.‏ لأنهم فريقان فريق علم بقاءهم على الضلالة، وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى وهو هدى لهؤلاء فحسب، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل «هدى للمتقين» مع أن فيه تصديراً للسورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن بذكر أولياء الله‏.‏ والمتقى في اللغة اسم فاعل من قولهم‏:‏ وقاه فاتقى، ففاؤها واو ولامها ياء، وإذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها في التاء الأخرى فقلت اتقى‏.‏ والوقاية فرط الصيانة، وفي الشريعة من يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك‏.‏ ومحل «هدى» الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع «لا ريب فيه» لذلك، أو النصب على الحال من الهاء في «فيه» والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يقال‏:‏ إن قوله «الم» جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، «وذلك الكتاب» جملة ثانية، «ولا ريب فيه» ثالثة، و«هدى للمتقين» رابعة‏.‏ وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلاً بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة‏.‏ وقيل لعالم‏:‏ فيم لذتك‏؟‏ قال‏:‏ في حجة تتبختر اتضاحاً وفي شبهة تتضاءل افتضاهاً‏.‏ ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة‏.‏ ففي الأولى الحذف والرمز إن المطلوب بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف، ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» كأن نفسه هداية وإيراده منكراً ففيه إشعار بأنه هدى لا يكتنه كنهه‏.‏ والإيجاز في ذكر المتقين كما مر‏.‏

‏{‏الذين‏}‏ في موضع رفع أو نصب على المدح أي هم الذين يؤمنون أو أعني الذين يؤمنون، أو هو مبتدأ وخبره «أولئك على هدى»، أو جر على أنه صفة للمتقين، وهي صفة واردة بياناً وكشفاً للمتقين كقولك «زيد الفقيه» المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذي هو أساس الحسنات، والصلاة والصدقة فهما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما، ألا ترى أن النبي عليه السلام سمى الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، وسمى الزكاة قنطرة الإسلام فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات، ولذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين، أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها كقولك‏:‏ زيد الفقيه المتكلم الطبيب، ويكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيئات ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ يصدقون وهو إفعال من الأمن وقولهم‏:‏ آمنه أي صدقه وحقيقته أمنه التكذيب والمخالفة، وتعديته بالباء لتضمنه معنى أقر واعترف‏.‏

‏{‏بالغيب‏}‏ بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي عليه السلام من أمر البعث والنشور والحساب وغير ذلك، فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك «غاب الشيء غيباً»‏.‏ هذا إن جعلته صلة للإيمان، وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيبة، والإيمان الصحيح أن يقر باللسان ويصدق بالجنان والعمل ليس بداخل في الإيمان‏.‏ ‏{‏وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ‏}‏ أي يؤدونها فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت وهو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها، أو أريد بإقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قومه، أو الدوام عليها والمحافظة من قامت السوق إذا نفقت لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه، والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم‏.‏ وحقيقة صلى حرك الصلوين أي الأليتين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده‏.‏ وقيل للداعي مصل تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد ‏{‏وَمِمَّا َرَزَقْنَاهُمْ‏}‏ أعطيناهم‏.‏ و«ما» بمعنى «الذي» ‏{‏يُنفِقُونَ‏}‏ يتصدقون‏.‏ أدخل «من» التبعيضية صيانة لهم عن التبذير المنهي عنه وقدم المفعول دلالة على كونه أهم والمراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها أو هي غيرها من النفقات في سبل الخير لمجيئه مطلقاً، وأنفق الشيء وأنفده أخوان كنفق الشيء ونفد، وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب‏.‏ ودلت الآية على أن الأعمال ليست من الإيمان حيث عطف الصلاة والزكاة على الإيمان والعطف يتقضي المغايرة‏.‏

‏{‏والذين يُؤْمِنُونَ‏}‏ هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحي أنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات، ثم إن عطفتهم على الذين يؤمنون بالغيب دخلوا في جملة المتقين، وإن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا فكأنه قيل‏:‏ هدى للمتقين، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك، أو المراد به وصف الأولين ووسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك‏:‏ هو الشجاع والجواد، وقوله‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

والمعنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه ‏{‏بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ يعني القرآن المراد جميع القرآن لا القدر الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم، لأنه الإيمان بالجميع واجب‏.‏ وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد، ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل‏.‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ يعني سائرالكتب المنزلة على النبيين عليهم الصلاة والسلام ‏{‏وبالآخرة‏}‏ وهي تأنيث الآخر الذي هو ضد الأول وهي صفة والموصوف محذوف وهو الدار بدليل قوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الدار الآخرة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏ وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا‏.‏ وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام‏.‏ ‏{‏هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه‏.‏ ‏{‏أولئك على هُدًى‏}‏ الجملة في موضع الرفع إن كان «الذين يؤمنون بالغيب» مبتدأ وإلا فلا محمل لها، ويجوز أن يجري الموصول الأول على «المتقين» وأن يرتفع الثاني على الإبتداء و«أولئك» خبره، ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله‏.‏ ومعنى الاستعلاء في «على هدى» مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونحوه «هو على الحق وعلى الباطل» وقد صرحوا بذلك في قولهم‏:‏ جعل الغواية مركباً، وامتطى الجهل، واقتعد غارب الهوى‏.‏ ومعنى هدى ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ أي أوتوه من عنده‏.‏ ونكر «هدى» ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه كأنه قيل على أي هدى ونحوه «لقد وقعت على لحم» أي على لحم عظيم‏.‏

‏{‏وأولئك هُمْ المفلحون‏}‏ أي الظافرون بما طلبوا الناجون عما هربوا؛ فالفلاح درك البغية والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته في الفاء والعين نحو «فلق وفلز وفلى»، وجاء العطف هنا بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ لاختلاف الخبرين المقتضيين للعطف هنا واتحاد الغفلة والتشبيه بالبهائم ثمّ، فكانت الثانية مقررة للأولى فهي من العطف بمعزل، وهم فصل‏.‏

وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة والتوكيد وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره، أو هو مبتدأ و«المفلحون» خبره، والجملة خبر «أولئك» فانظر كيف قرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره، ففيه تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح‏.‏ وتعريف المفلحون ففيه دلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو‏؟‏ فقيل‏:‏ زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته‏.‏ وتوسيط الفصل بينه وبين «أولئك» ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا‏.‏ اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة ‏[‏الآيتان‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏

لما قدم ذكر أوليائه بصفاتهم المقربة إليه، وبيَّن أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى بقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الكفر ستر الحق بالجحود، والتركيب دال على الستر ولذا سمي الزراع كافراً وكذا الليل‏.‏ ولم يأت بالعاطف هنا كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفطار‏:‏ 13، 14‏]‏ لأن الجملة الأولى هنا مسوقة بياناً لذكر الكتاب لا خبراً عن المؤمنين وسيقت الثانية للإخبار عن الكفار بكذا، فبين الجملتين تفاوت في المراد وهما على حد لا مجال للعطف فيه، ولئن كان مبتدأ على تقرير فهو كالجاري عليه، والمراد بالذين كفروا أناس بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وأضرابهما‏.‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ‏}‏ بهمزتين كوفي، وسواء بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى كَلِمَةٍ سَوَاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏، أي مستوية، وارتفاعه على أنه خبر لإن و«أأنذرتهم أم لم تنذرهم» مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل‏:‏ إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه‏.‏ أو يكون «سواء» خبراً مقدماً و«أأنذرتهم أم لم تنذرهم» في موضع الابتداء أي سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر ل «إن» وإنما جاز الإخبار عن الفعل مع أنه خبر أبداً لأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى‏.‏ والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً‏.‏ قال سيبويه‏:‏ جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما جرى ذلك على صورة النداء ولا نداء‏.‏ والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر على المعاصي ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر ل «إن»، والجملة قبلها اعتراض أو خبر بعد خبر‏.‏ والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وليكون الإرسال عاماً وليثاب الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الختم التغطية لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ طبع الله على قلوبهم فلا يعقلون الخير‏.‏ يعني أن الله طبع عليها فجعلها بحيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان‏.‏ وحاصل الختم والطبع خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه‏.‏ وعند المعتزلة أعلام محض على القلوب بما يظهر للملائكة أنهم كفار فيلعنونهم ولا يدعون لهم بخير‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجاز والخاتم في الحقيقة الكافر، إلا أنه تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب فيقال‏:‏ بنى الأمير المدينة، لأن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له، فإسناده إلى الفاعل حقيقة‏.‏

وقد يسند إلى هذه الأشياء مجازاً لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له إسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال ‏{‏وعلى سَمْعِهِمْ‏}‏ وحد السمع كما وحد البطن في قوله‏:‏

كلوا من بعض بطنكم تعفوا

لأمن اللبس ولأن السمع مصدر في أصله يقال‏:‏ سمعت الشيء سمعاً وسماعاً، والمصدر لا يجمع لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير فلا يحتاج فيه إلى التثنية والجمع فلمح الأصل‏.‏ وقيل‏:‏ المضاف محذوف أي وعلى مواضع سمعهم وقرئ «وعلى أسماعهم»‏.‏ ‏{‏وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ بالرفع خبر ومبتدأ، والبصر‏:‏ نور العين وهو ما يبصر به الرائي، كما أن البصيرة نور القلب وهي ما به يستبصر ويتأمل وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى فيهما آلتين للإبصار والاستبصار‏.‏ والغشاوة‏:‏ الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة والقلادة‏.‏ والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية لقوله‏:‏ ‏{‏وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏، ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم‏.‏ ونصب المفضل وحده غشاوة بإضمار «جعل» وتكرير الجار في قوله «وعلى سمعهم» دليل على شدة الختم في الموضعين‏.‏ قال الشيخ الإمام أبو منصور بن علي رحمه الله‏:‏ الكافر لما لم يسمع قول الحق ولم ينظر في نفسه وفي غيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث فيعلم أن لا بد من صانع، جعل كأن على بصره وسمعه غشاوة، وإن لم يكن ذلك حقيقة وهذا دليل على أن الأسماع عنده داخلة في حكم التغشية‏.‏ والآية حجة لنا على المعتزلة في الأصلح فإنه أخبر أنه ختم على قلوبهم ولا شك أن ترك الختم أصلح لهم‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه، والفرق بين العظيم والكبير أن العظيم يقابل الحقير والكبير يقابل الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير‏.‏ ويستعملان في الجثة والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره‏.‏ ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من التغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب لا يعلم كنهه إلا الله‏.‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر‏}‏ افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالكافرين قلوباً وألسنة، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاءً وخداعاً ولذا نزل فيهم

‏{‏إِنَّ المنافقين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏ وقال مجاهد‏:‏ أربع آيات من أول السورة في نعت المؤمنين، وآيتان في ذكر الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين، نعى عليهم فيها نكرهم وخبثهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة‏.‏ وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة‏.‏ وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً وحذفها كاللازم مع لام التعريف لا يكاد يقال الأناس ويشهد لأصله إنسان وأناسي وإنس، وسموا به لظهروهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم‏.‏ ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول فإنك تقول وزن قه افعل وليس معك إلا العين، وهو من أسماء الجمع ولام التعريف فيه للجنس ومن موصوفة ويقول صفة لها كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا‏.‏ وإنما خصوا الإيمان بالله وباليوم الآخر وهو الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، وإنما سمي بالآخر لتأخره عن الأوقات المنقضية أو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنهم أوهموا في هذا المقال أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ وهي العلم بالصانع وصفاته وأسمائه، ومسائل المعاد وهي العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة‏.‏ وفي تكرير الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام‏.‏ وإنما طابق قوله ‏{‏وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ وهو في ذكر شأن الفاعل لا الفعل، قولهم‏:‏ آمنا بالله وباليوم الآخر، وهو في ذكر شأن الفعل لا الفاعل لأن المراد إنكار ما ادعوه ونفيه على أبلغ وجه وآكده وهو إخراج ذواتهم من أن تكون طائفة من المؤمنين، ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 37‏]‏، فهو أبلغ من قولك «وما يخرجون منها»‏.‏ وأطلق الإيمان في الثاني بعد تقييده في الأول لأنه يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، ويحتمل أن يراد نفي أصل الإيمان وفي ضمنه نفي المذكور أولاً‏.‏ والآية تنفي قول الكرامية‏:‏ إن الإيمان هو الإقرار باللسان لا غير لأنه نفى عنهم اسم الإيمان مع وجود الإقرار منهم، وتؤيد قول أهل السنة إنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان‏.‏ ودخلت الباء في خبر «ما» مؤكدة للنفي لأنه يستدل به السامع على الجحد إذا غفل عن أول الكلام، ومن موحد اللفظ فلذا قيل يقول وجمع «وما هم بمؤمنين» نظراً إلى معناه‏.‏

‏{‏يخادعون الله‏}‏ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذف المضاف كقوله ‏{‏واسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ كذا قاله أبو علي رحمه الله وغيره، أي يظهرون غير ما في أنفسهم‏.‏

فالخداع إظهار غير ما في النفس، وقد رفع الله منزلة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل خداعه خداعه وهو كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ وقيل‏:‏ معناه يخادعون الله في زعمهم لأنهم يظنون أن الله ممن يصح خداعه، وهذا المثال يقع كثيراً لغير اثنين نحو قولك «عاقبت اللص»‏.‏ وقد قرئ «يخدعون الله» وهو بيان ليقول أو مستأنف كأنه قيل‏:‏ ولم يدعون الإيمان كاذبين وما منفعتهم في ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ يخادعون الله، ومنفعتهم في ذلك متاركتهم عن المحاربة التي كانت مع من سواهم من الكفار وإجراء أحكام المؤمنين عليهم ونيلهم من الغنائم وغير ذلك‏.‏ قال صاحب الوقوف‏:‏ الوقف لازم على «بمؤمنين» لأنه لو وصل لصار التقدير وما هم بمؤمنين مخادعين فينتفي الوصل كقولك «ما هو برجل كاذب» والمراد نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم‏.‏ ومن جعل «يخادعون» حالاً من الضمير في يقول والعامل فيها «يقول» والتقدير يقول آمنا بالله مخادعين أو حالاً من الضمير في «بمؤمنين» والعامل فيها اسم الفاعل والتقدير وما هم بمؤمنين في حال خداعهم لا يقف والوجه الأول‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ أي يخادعون رسول الله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإضمار الكفر‏.‏ ‏{‏وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ‏}‏ أي وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأن ضررها يلحقهم‏.‏ وحاصل خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم فكأنهم خدعوا أنفسهم وما يخادعون‏.‏ أبو عمرو ونافع ومكي للمطابقة وعذر الأولين أن خدع وخادع هنا بمعنى واحد، والنفس ذات الشيء وحقيقته‏.‏ ثم قيل للقلب والروح النفس لأن النفس بهما، وللدم نفس لأن قوامها بالدم، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم، والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم‏.‏ ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ أن حاصل خداعهم يرجع إليهم والشعور علم الشيء علم حس من الشعار وهو ثوب يلي الجسد، ومشاعر الإنسان حواسه لأنها آلات الشعور، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس وهم، لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له‏.‏

‏{‏فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ أي شك ونفاق لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد‏.‏ في الحديث ‏"‏ مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ‏"‏ والمريض متردد بين الحياة والموت، ولأن المرض ضد الصحة والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسماً لكل فساد والشك والنفاق فساد في القلب‏.‏ ‏{‏فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا‏}‏ أي ضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن الاقتدار‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به خلق النفاق في حالة البقاء بخلق أمثاله كما عرف في زيادة الإيمان‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ كوفي‏.‏ أي بكذبهم في قولهم‏:‏ آمنا بالله وباليوم الآخر، فما مع الفعل بمعنى المصدر، والكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به يكذبون غيرهم أي بتكذيبهم النبي عليه السلام فيما جاء به‏.‏ وقيل‏:‏ هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق ونظيرهما بان الشيء وبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ معطوف على «يكذبون» ويجوز أن يعطف على «يقول آمنا» لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم ‏{‏لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض‏}‏ لكان صحيحاً، والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة‏.‏ والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، وكان فساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم‏.‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ بين المؤمنين والكافرين بالمداراة يعني أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد، لأن «إنما» لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك «إنما ينطلق زيد وإنما زيد كاتب» و«ما» كافة لأنها تكفها عن العمل‏.‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ أنهم مفسدون فحذف المفعول للعمل به‏.‏ «ألا» مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحققاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 40‏]‏، ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقد رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم والمبالغة فيه من جهة الاستئناف، وما في «ألا» و«إن» من التأكيد وتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله «لا يشعرون»‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَا ءَامَنَ الناس قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء‏}‏ نصحوهم من وجهين‏:‏ أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد، وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسَدَََّ من اتباع ذوي الأحلام، فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادي جهلهم، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة‏.‏ وإنما صح إسناد «قيل» إلى «لا تفسدوا» و«آمنوا» مع أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يصح، لأنه إسناد إلى لفظ الفعل والممتنع إسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل‏:‏ وإذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب‏.‏ و«ما» في كما كافة في «ربما»، أو مصدرية كما في ‏{‏بِمَا رَحُبَتْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏ واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم، والكاف في «كما» في موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان الناس ومثله كما آمن السفهاء‏.‏

والاستفهام في «أنؤمن» للإنكار، في «السفهاء» مشار بها إلى الناس، وإنما سفهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً والسفه سخافة العقل وخفة الحلم‏.‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنهم هم السفهاء‏.‏ وإنما ذكر هنا «لا يعلمون» وفيما تقدم «لا يشعرون» لأنه قد ذكر السفه وهوجهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له، ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس‏.‏ والسفهاء خبر «إن» و«هم» فصل أو مبتدأ والسفهاء خبرهم والجملة خبر «إن»‏.‏

‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا‏}‏ وقرأ أبو حنيفة رحمه الله «وإذا لاقوا» يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه‏.‏ الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم‏.‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم‏}‏ خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه، وبإلى أبلغ لأن فيه دلالة الابتداء والانتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى‏.‏ وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود‏.‏ وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم «تشيطن»، وعنه أنها زائدة واشتقاقه من «شطن» إذا بعد لبعده من الصلاح والخير، أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل‏.‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم‏.‏ وإنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محققة ب «إن» لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة، وكيف يطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار‏.‏ وأما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلاً منهم رائجاً عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد‏.‏ وقوله ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ‏}‏ تأكيد لقوله «إنا معكم» لأن معناه الثبات على اليهودية، وقوله «إنما نحن مستهزئون» رد للإسلام ودفع لهم منهم لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو استنئاف كأنهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا إنا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين فقالوا إنما نحن مستهزئون‏.‏ والاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ مات على المكان‏.‏

‏{‏الله يَسْتَهْزِئ بِهِمُ‏}‏ أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء، وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هو الوجه المختار‏.‏ واستئناف قوله تعالى «الله يستهزئ بهم» من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان‏.‏ ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل «الله يستهزئ بهم» ولم يقل الله مستهزئ بهم ليكون طبقاً لقوله «إنما نحن مستهزؤون» ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ‏}‏ أي يمهلهم عن الزجاج ‏{‏فِي طغيانهم‏}‏ في غلوهم في كفرهم ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ أي استبدلوها به واختاروها عليه‏.‏ وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم كفروا به، أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا الشراء ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم، وسمي ذلك شراء فصار دليلاً لنا على أن من أخذ شيئاً من غيره ترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به‏.‏ والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء، يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين‏.‏ ‏{‏فَمَا رَبِحَت تجارتهم‏}‏ الربح الفضل على رأس المال، والتجارة صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح، وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجازي، ومعناه فما ربحوا في تجارتهم إذ التجارة لا تربح، ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ذكر الربح والتجارة ترشيحاً له كقوله‏:‏

ولما رأيت النسر عز ابن دأية *** وعشش في وكريه جاش له صدري

لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر‏.‏ والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما، فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح‏.‏ وقيل‏:‏ «الذين» صفة «أولئك» و«فما ربحت تجارتهم» إلى آخر الآية في محل رفع خبر «أولئك»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏مّثْلُهُمْ كَمِثْلِِ الذي استوقد نَاراً‏}‏ لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان، ولضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر، ولقد كثر ذلك في الكتب السماوية ومن سور الإنجيل سورة الأمثال‏.‏ والمثل في أصل كلامهم هو المثل وهو النظير‏.‏ يقال‏:‏ مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلاً إلا قولاً فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير‏.‏ وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل‏:‏ حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً، وكذلك قوله ‏{‏مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏ أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة الشأن، ثم أخذ في بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ووضع «الذي» موضع الذين كقوله ‏{‏وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 69‏]‏ فلا يكون تمثيل الجماعة بالواحدة، أو قصد جنس المستوقدين، أو أريد الفوج الذي استوقد ناراً على أن ذوات المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد‏.‏ ومعنى استوقد أوقد، ووقود ووقود النار سطوعها، والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏ الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله ‏{‏هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏ وهي في الآية متعدية، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله، والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء‏.‏ وجواب فلما ‏{‏ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ‏}‏ وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل «إذا»‏.‏ و«ما» موصولة و«حوله» نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير‏:‏ فلما أضاءت شيئاً ثابتاً حوله‏.‏ وجمع الضمير وتوحيده للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى‏.‏ والنور ضوء النار وضوء كل نير، ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً، ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به‏.‏ والمعنى أخذ بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب‏.‏ ولم يقل ذهب الله بضوئهم لقوله «فلما أضاءت» لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأساً، ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، ألا ترى كيف ذكر عقيبه ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات‏}‏ والظلمة عرض ينافي النور‏.‏ وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله ‏{‏لاَّ يُبْصِرُونَ‏}‏ وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد، فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه «وتركهم في ظلمات» أصله «هم في ظلمات» ثم دخل «ترك» فنصب الجزأين والمفعول الساقط من «لا يبصرون» من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً‏.‏

وإنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا في ظلمة وحيرة، نعم المنافق خابط في ظلمات الكفر أبداً ولكن المواد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدي‏.‏ وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وتنكير النار للتعظيم‏.‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ‏}‏ أي هم صم، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وأن ينظروا أو يتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أنفت مشارعهم‏.‏ وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم‏:‏ هم ليوث للشجعان وبحور للأَسخياء إلا أن هذا في الصفات وذلك في الأسماء، وما في الآية تشبيه بليغ في الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون، والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام ‏{‏فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشيء‏.‏ وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون‏.‏

‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏ ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإيضاح‏.‏ وشبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد ناراً وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق‏.‏ والمعنى أو كمثل ذوي صيب فحذف «مثل» لدلالة العطف عليه «وذوي» لدلالة «يجعلون» عليه‏.‏ والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا، فهذا تشبيه أشياء بأشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسيء‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 58‏]‏، وقول امرئ القيس‏:‏

كأن قلوب الطير رطباً ويابسا *** لدى وكرها العناب والحشف البالي

بل جاء به مطوياً ذكره على سنن الاستعارة‏.‏ والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به‏.‏

بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولاً بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرؤ القيس، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏ الآية‏.‏ فالمراد تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوارة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاء أنزلناه مِنَ السماء‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏، فالمراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفة، فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً فلا‏.‏ فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد أيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق، والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخر، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ‏.‏ وعطف أحد التمثيلين على الآخر ب «أو» لأنها في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك عند البعض، ثم استعيرت لمجرد التساوي كقولك «جالس الحسن أو ابن سيرين» تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً‏}‏ ‏[‏الدهر‏:‏ 24‏]‏، أي الآثم والكفور سيان في وجوب العصيان فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين وأن الكيفيتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك‏.‏ والصيب‏:‏ المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع يقال للسحاب صيب أيضاً‏.‏ وتنكير «صيب» لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول، والسماء هذه المظلة‏.‏ وعن الحسن أنها موج مكفوف‏.‏ والفائدة في ذكر السماء‏.‏ والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام أخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأن كل أفق من آفاقها سماء، ففي التعريف مبالغة كما في تنكير صيب وتركيبه وبنائه، وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، وقيل‏:‏ إنه يأخذ من البحر ويرتفع‏.‏

«ظلمات» مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوي لكونه صفة لصيب بخلاف ما لو قلت ابتداء «فيه ظلمات» ففيه خلاف بين الأخفش وسيبويه‏.‏

والرعد‏:‏ الصوت الذي يسمع من السحاب لاصطكاك أجرامه، أو ملك يسوق السحاب‏.‏ والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع، والضمير في «فيه» يعود إلى الصيب فقد جعل الصيب مكاناً للظلمات، فإن أريد به السحاب فظلماته إذا كان أسحم مطبقاً، ظلمتا سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل‏.‏ وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة أظلال غمامه مع ظلمة الليل‏.‏ وجعل الصيب مكاناً للرعد والبرق على إرادة السحاب به ظاهر، وكذا إن أريد به المطر لأنهما ملتبسان به في الجملة‏.‏ ولم يجمع الرعد والبرق لأنهما مصدران في الأصل، يقال رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً فروعي حكم الأصل بأن ترك جمعهما‏.‏ ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف‏.‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أصابعهم فِي ءَاذَانِهِم‏}‏ الضمير لأصحاب الصيب وإن كان محذوفاً كما في قوله‏:‏ ‏{‏أو هُمْ قَائِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه‏.‏ ولا محل ل «يجعلون» لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال‏:‏ فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد‏؟‏ فقيل‏:‏ يجعلون أصابعهم في آذانهم‏.‏ ثم قال‏:‏ فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق‏؟‏ فقال‏:‏ يكاد البرق يخطف أبصارهم‏.‏ وإنما ذكر الأصابع ولم يذكر الأنامل ورؤوس الأصابع هي التي تجعل في الأذان اتساعاً كقوله‏:‏ ‏{‏فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38‏]‏ والمراد إلى الرسغ، ولأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل‏.‏ وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسدّ به الأذن لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة‏.‏ ‏{‏مّنَ الصواعق‏}‏ متعلق ب «يجعلون» أي من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم‏.‏ والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار‏.‏ قالوا‏:‏ تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلاَّ أتت عليه، إلاَّ أنها مع حدتها سريعة الخمود‏.‏ يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت‏.‏ ويقال‏:‏ صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي‏:‏ مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق ‏{‏حَذَرَ الموت‏}‏ مفعول له، والموت فساد بنية الحيوان أو عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة ‏{‏والله مُحِيطٌ بالكافرين‏}‏ يعني‏:‏ أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط فهو مجاز وهذه الجملة اعتراض لا محل لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 24‏]‏

‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم‏}‏ الخطف الأخذ بسرعة، و«كاد» يستعمل لتقريب الفعل جداً، وموضع يخطف نصب لأنه خبر «كاد»‏.‏ ‏{‏كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم‏}‏ «كل» ظرف و«ما» نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد محذوف أي كل وقت أضاء لهم فيه، والعامل فيه جوابها وهو ‏{‏مَّشَوْاْ فِيهِ‏}‏ أي في ضوئه وهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول‏:‏ كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته‏؟‏ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين‏.‏ و«أضاء» متعدٍ كلما نور لهم ممشى ومسلكاً أخذوه، والمفعول محذوف‏.‏ أو غير متعدٍ أي كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره‏.‏ والمشي جنس الحركة المخصوصة فإذا اشتد فهو سعي فإذا ازداد فهو عدوٌ‏.‏ ‏{‏وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ‏}‏ «أظلم» غير متعدٍ وذكر مع «أضاء» «كلما» ومع «أظلم» «إذا» لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف‏.‏ ‏{‏قَامُواْ‏}‏ وقفوا وثبتوا في مكانهم ومنه قام الماء إذا جمد‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ‏}‏ بقصيف الرعد ‏{‏وأبصارهم‏}‏ بوميض البرق‏.‏ ومفعول «شاء» محذوف لدلالة الجواب عليه أي ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» وأراد لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله‏:‏

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته *** عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَرَاد الله أن يتخذْ وَلَدًا‏}‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ أي إن الله قادر على كل شيء‏.‏

لما عدد الله فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم وأحوالهم وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ويحظيها عند الله ويرديها أقبل عليهم بالخطاب وهو من الالتفات المذكور فقال‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الناس‏}‏ قال علقمة‏:‏ ما في القرآن «يا أيها الناس» فهو خطاب لأهل مكة، وما فيه «يا أيها الذين آمنوا» فهو خطاب لأهل المدينة، وهذا خطاب لمشركي مكة، و«يا» حرف وضع لنداء البعيد، وأي والهمزة للقريب، ثم استعمل في مناداة من غفا وسها وإن قرب ودنا تنزيلاً له منزلة من بعد ونأى، فإذا نودي به القريب المقاطن فذاك للتوكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جداً‏.‏ وقول الداعي «يا رب» وهو أقرب إليه من حبل الوريد استقصار منه لنفسه واستبعاد لها عن مظان الزلفى هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتفريط مع فرط التهالك على استجابة دعوته‏.‏

و «أي» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن «ذو» و«الذي» وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل، وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يتضح المقصود بالنداء‏.‏ فالذي يعمل فيه «يا أي»، أي والتابع له صفته نحو «يا زيد الظريف» إلا أن «أيا» لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك عن الصفة، وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لتأكيد معنى النداء وللعوض عما يستحقه أي من الإضافة‏.‏ وكثر النداء في القرآن على هذه الطريقة لأن ما نادى الله به عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده أمور عظام وخطوب جسام، يجب عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم إليها وهم عنها غافلون، فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ‏.‏ ‏{‏اعبدوا رَبَّكُمُ‏}‏ وحدوه‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كل عبادة في القرآن فهي توحيد ‏{‏الذي خَلَقَكُمْ‏}‏ صفة موضحة مميزة لأنهم كانوا يسمون الآلهة أرباباً‏.‏ والخلق إيجاد المعدوم على تقدير واستواء، وعند المعتزلة إيجاد الشيء على تقدير واستواء، وهذا بناء على أن المعدوم شيء عندهم لأن الشيء ما صح أن يعلم ويخبر عنه عندهم، وعندنا هو اسم للموجود‏.‏ خلقكم بالإدغام‏:‏ أو عمرو‏.‏ ‏{‏والذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ احتج عليهم بأنه خالقهم وخالق من قبلهم لأنهم كانوا مقرين بذلك فقيل لهم‏:‏ إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ أي اعبدوا على رجاء أن تتقوا فتنجوا بسببه من العذاب‏.‏ و«لعل» للترجي والإطماع ولكنه إطماع من كريم فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه، وبه قال سيبويه‏.‏ وقال قطرب‏:‏ هو بمعنى «كي» أي لكي تتقوا‏.‏ ‏{‏الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض‏}‏ أي صير ومحل «الذي» نصب على المدح أو رفع بإضمار هو «فراشاً» بساطاً تقعدون عليها وتنامون وتتقلبون وهو مفعول ثانٍ لجعل، وليس فيه دليل على أن الأرض مسطحة أو كرية إذ الافتراش ممكن على التقديرين‏.‏ ‏{‏والسماء بِنَاءً‏}‏ سقفاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 32‏]‏، وهو مصدر سمي به المبنى‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً‏}‏ مطراً ‏{‏فَأَخْرَجَ بِهِ‏}‏ بالماء، نعم خروج الثمرات بقدرته ومشيئته وإيجاده ولكن جعل الماء سبباً في خروجها كماء الفحل في خلق الولد وهو قادر على إنشاء الكل بلا سبب كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجاً لها من حال إلى حال وناقلاً من مرتبة إلى مرتبة، حكماً وعبراً للنظار بعيون الاستبصار‏.‏ و«من» في ‏{‏مِنَ الثمرات‏}‏ للتبعيض أو للبيان ‏{‏رِزْقاً‏}‏ مفعول له إن كانت «من» للتبعيض، ومفعول به ل «أخرج» إن كانت للبيان‏.‏

وإنما قيل الثمرات دون الثمر والثمار وإن كان الثمر المخرج بماء السماء كثيراً، لأن المراد جماعة الثمرة، ولأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية‏.‏ ‏{‏لَكُمْ‏}‏ صفة جارية على الرزق إن أريد به العين، وإن جعل اسماً للمعنى فهو مفعول به كأنه قيل رزقاً وإياكم‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً‏}‏ هو متعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أنداداً لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد، وأن لا يجعل له ند ولا شريك‏.‏ ويجوز أن يكون الذي «رفعاً» على الابتداء وخبره «فلا تجعلوا»‏.‏ ودخول الفاء لأن الكلام يتضمن الجزاء أي الذي حفكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية فلا تتخذوا له شركاء‏.‏ المثل والند ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ، ومعنى قولهم ليس لله ند ولا ضد نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنها لا تخلق شيئاً ولا ترزق والله الخالق الرازق، أو مفعول «تعلمون» متروك أي وأنتم من أهل العلم‏.‏ وجعل الأصنام لله أنداداً غاية الجهل، والجملة حال من الضمير في «فلا تجعلوا»‏.‏

ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك لخلقهم أحياء قادرين وخلق الأرض التي هي مثواهم ومستقرهم، وخلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار وما سوّاه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الثمار رزقاً لبني آدم، فهذا كله دليل موصل إلى التوحيد مبطل للإشراك، لأن شيئاً من المخلوقات لا يقدر على إيجاد شيء منها، عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما يقرر إعجاز القرآن فقال‏:‏

‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا‏}‏ «ما» نكرة موصوفة أو بمعنى الذي ‏{‏على عَبْدِنَا‏}‏ محمد عليه السلام، والعبد اسم لمملوك من جنس العقلاء، والمملوك موجود قهر بالاستيلاء‏.‏ وقيل‏:‏ نزلنا دون أنزلنا لأن المراد به النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي وذلك أنهم كانوا يقولون لو كان هذا من عند الله لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة وآيات غب آيات على حسب النوازل وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً، شيئاً فشيئاً لا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة، ولا يرمي الناثر بخطبه ضربة، فلو أنزله الله لأنزله جملة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏، فقيل‏:‏ إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على تدريج ‏{‏فَأْتُواْ بِسُورَةٍ‏}‏ أي فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجماً فرداً من نجومه سورة من أصغر السور‏.‏

والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات‏.‏ وواوها إن كانت أصلاً فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة محوزة على حيالها كالبلد المسور، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد كاحتواء سور المدينة على ما فيها، وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارئ، وهي أيضاً في نفسها مرتبة طوال وأوساط وقصار، أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين‏.‏ وإن كانت منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسؤرة التي هي البقية من الشيء‏.‏ وأما الفائدة في تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً فهي كثيرة، ولذا أنزل الله تعالى التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه مسورة مترجمة السورة، وبوب المصنفون في كل فن كتبهم أبواباً موشحة الصدور بالتراجم‏.‏ منها أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتمل على أصناف كان أحسن من أن يكون بياناً واحداً، ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على الدرس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، ومن ثم جزّأ القراء القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً، ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة فيعظم عنده ما حفظه ويجل في نفسه، ومنه حديث أنس رضي الله عنه كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل فينا‏.‏ ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل‏.‏ ‏{‏مِّن مِّثْلِهِ‏}‏ متعلق ب «سورة» صفة لها والضمير لما نزلنا أي بسورة كائنة من مثله يعني فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم، أو لعبدنا أي فأتوا بمن هو على حاله من كونه أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء‏.‏ ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك‏.‏ ورد الضمير إلى المنزل أولى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ‏{‏فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ‏{‏على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏‏.‏ ولأن الكلام مع رد الضمير إلى المنزل أحسن ترتيباً‏.‏ وذلك أن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه وهو مسوق إليه فإن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم نبذاً مما يماثله‏.‏ وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال‏:‏ وإن ارتبتم في أن محمداً منزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله، ولأن هذا التفسير يلائم قوله ‏{‏وادعوا شُهَدَاءَكُم‏}‏ جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ أي غير الله وهو متعلق ب «شهداءَكم أي ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق أو من يشهد لكم بأنه مثل القرآن ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ إن ذلك مختلق وأنه من كلام محمد عليه السلام‏.‏

وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا أنتم بمثله واستعينوا بآلهتكم على ذلك‏.‏

‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرفون صدق النبي عليه السلام، قال لهم‏:‏ فإذا لم تعارضوه وبان عجزكم ووجب تصديقه فآمنوا وخافوا العذاب المعَدَّ لمن كذب وعاند‏.‏ وفيه دليلان على إثبات النبوة صحة كون المتحدى به معجزاً، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا الله‏.‏ ولما كان العجز عن المعارضة قبل التأمل كالشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واعتمادهم على بلاغتهم، سيق الكلام معهم على حسب حسبانهم فجيء ب «إن» الذي للشك دون «إذا» الذي للوجوب، وعبَّر عن الإتيان بالفعل لأنه فعل من الأفعال‏.‏ والفائدة فيه أنه جارٍ مجرى الكتابة التي تعطيك اختصاراً إذ لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال «فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله»‏.‏ ولا محل لقوله «ولن تفعلوا» لأنها جملة اعتراضية، وحسّن هذا الاعتراض أن لفظ الشرط للتردد فقطع التردد بقوله «ولن تفعلوا» و«لا» و«لن» أختان في نفي المستقبل إلا أن في «لن» تأكيداً‏.‏ وعن الخليل أصلها «لا أن»، وعند الفراء «لا» أبدلت ألفها نوناً، وعند سيبويه حرف موضوع لتأكيد نفي المستقبل، وإنما علم أنه إخبار عن الغيب على ما هو به حتى صار معجزة لأنهم لو عارضوه بشيء لاشتهر فكيف والطاعنون فيه أكثر عدداً من الذابين عنه‏؟‏ وشرط في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله لأنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق الرسول، وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد وأبوا الانقياد استوجبوا النار فقيل لهم‏:‏ إن استبنتم العجز فاتركوا العناد، فوضع «فاتقوا النار» موضعه لأن اتقاء النار سبب ترك العناد وهو من باب الكناية وهي من شعب البلاغة، وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن‏.‏ والوقود ما ترفع به النار يعني الحطب، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح‏.‏ وصلة الذي والتي تجب أن تكون معلوماً للمخاطب فيحتمل أن يكونوا سمعوا من أهل الكتاب أو من رسول الله، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وإنما جاءت النار منكرة ثم ومعرفة هنا لأن تلك الآية نزلت بمكة ثم نزلت هذه الآية بالمدينة مشاراً بها إلى ما عرفوه أولاً‏.‏

ومعنى قوله تعالى‏:‏ «وقودها الناس والحجارة» أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران بأنها تتقد بالناس والحجارة وهي حجارة الكبريت، فهي أشد توقداً وأبطأ خموداً وأنتن رائحة وألصق بالبدن أو الأصنام المعبودة فهي أشد تحسيراً‏.‏ وإنما قرن الناس بالحجارة لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث عبدوها وجعلوها لله أنداداً ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ أي حطبها، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في إيلامهم‏.‏ ‏{‏أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ هيئت لهم‏.‏ وفيه دليل على أن النار مخلوقة خلافاً لما يقوله جهم سنة الله في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب تنشيطاً لاكتساب ما يزلف وتثبيطاً عن اقتراف ما يتلف، فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه بذكر المؤمنين وأعمالهم وتبشيرهم بقوله‏:‏